تحليلات

ميدان “السبعين” لم يعد يستقبل التهاني

في يوم مميز في تاريخ بلاد اليمن، الثاني والعشرين من مايو/أيار، تحول أشهر ميدان فيها من ساحة يستقبل فيها مسؤولو الدولة التهاني، إلى ساحة مفتوحة تستقبل العزاء في مصاب جلل هز اليمنيين في وجدانهم الإنساني والوطني .


إنه ميدان السبعين في العاصمة صنعاء الذي ظل لسنوات طوال يستقبل الاحتفالات الرسمية للدولة، إلا أنه منذ أكثر من شهر تحول إلى مزار يستقبل عزاء الناس بسقوط أكثر من 400 جندي بين قتيل وجريح قضوا في عملية إرهابية، قبل يوم واحد فقط من عرض عسكري بمناسبة ذكرى توحيد اليمن، الذي يصادف يوم 22 مايو/أيار من كل عام .


لم يكن يوم 21 مايو/أيار الماضي يوماً عادياً بالنسبة لليمنيين وليس يوماً كمثله في الأعوام السابقة، بل كان يوماً استثنائياً، فقد كان الجنود وصف الضباط والضباط وجنرالات من الجيش، على رأسهم وزير الدفاع اللواء الركن محمد ناصر أحمد، يعدون لاحتفائية استثنائية في وقت استثنائي ومكان استثنائي، بعد عام متوتر شهد أوسع ثورة احتجاجية ضد نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، أطاحت به من موقع الرئاسة وأبقت على جزء من نظامه .


عرف ميدان السبعين كمنطقة عسكرية مغلقة تحت عيون رئاسة الجمهورية وقوات الحرس الجمهوري وقوى الأمن المركزي المحاذية للميدان الذي يقابل منصته الرئيسة نصب تذكاري للأهداف الستة لثورة سبتمبر اليمنية، لكن هذا الميدان لا يبدو أنه كان مغلقاً في اليوم المشؤوم أمام غزو الإرهابيين، الذين أوفدوا عنصراً منهم ليقتل بحزام ناسف أكثر من 100 جندي ويجرح قرابة 300 من زملائهم، كانوا يعدون أنفسهم لعرض عسكري في اليوم التالي، ومنهم من كان قد أخبر ذويه بأن ينتظروا رؤيته أمام شاشات التلفزة؛ فهذا العيد اليماني كان غير كل الأعياد .


حتى اللحظة لم تكشف معلومات جدية عن تفجير السبعين الذي أبكى جل اليمنيين، عدا ما صدر من بيان منسوب لتنظيم القاعدة أعلن فيه “فخره” بالعملية واعتزازه بمنفذها، بعد إرباك معلوماتي رسمي عن المجزرة المروعة إثر وقوعها .


ارتبط ميدان السبعين بأذهان اليمنيين بالعروض العسكرية الكبيرة التي تقيمها السلطات، التي تستقبل التهاني بالعيد الوطني والمناسبات الوطنية الأخرى، لكن مجزرة السبعين غيرت الصورة في يوم دام واحد، فغدا المكان ميداناً لزوار غير رسميين من المواطنين فراداً وجماعات .


مكان المجزرة في الميدان والتوضيب المتواضع لذكرى الجنود الذين لقوا حتفهم فيه، مازال إلى اليوم شاهداً على واقعة ملتبسة في أذهان فرقاء العمل السياسي، إلا أنه في نفس الوقت شاهد على جريمة غير مسبوقة تتجسد دلالاتها في الأثر الكبير الذي تركته في نفوس العامة، الذين حولوا منذ اليوم التالي لوقوعها، والدماء لم تجف بعد، موقع الجريمة إلى مزار شعبي يتقاطر إليه الصغار والكبار، الرجال والنساء وعدد من الأجانب أيضاً .


صور الجريمة المعلقة في موقع الحدث تظهر بشاعة الفعل الإرهابي، فالجثث المرمية فوق بعضها والأشلاء والأجساد الممزقة واللحم الآدمي المختلط ببعضه والدماء التي غمرت المكان كافية لأن تقدم الدرس العظيم لليمنيين أن يعوا كارثة الحدث الذي أتى في خضم وضع متأزم ومتفجر، وأن الإرهاب لا دين له .


ردة فعل المرء لحظة زيارة المكان ورؤية صور الضحايا وصور المجزرة، هي الاستنكار والإدانة، وهذا ما يرتسم على وجوه الزائرين وعباراتهم المدونة في سجل المعرض العام في الهواء الطلق، بعد أكثر من شهر على المذبحة، لحظة زيارة المكان لا تجد من يفكر كثيراً بتفاصيل الحدث، بل تجد انفعالة بالغضب والاستنكار والإدانة، بل كان هناك من عبر عن غضبه بكلمات دونها على الصور المعروضة ومنهم من مزق صورة الانتحاري الملصقة ومنهم من مضى إلى طريقه حتى من دون أن يتلفت إلى سجل المعرض .


في المزار، معرض الحدث، تجد الزهور وبقايا الورود وبقايا شموع لزائرين جاءوا ليعبروا عن تضامنهم مع ذوي الضحايا الشهداء والصلاة على أرواحهم الطاهرة، وجاؤوا أيضاً ليدينوا الإرهاب .


في المكان تحضر الدموع عنوة على ما تراه الأعين من صور، بتأثير المكان والإحساس بفقدان ذوي الشهداء والجرحى لأحبائهم وأقاربهم، يعلو منسوب الإحساس بفداحة الجرم والخسارة، فكما تنهمر الدموع من البعض يغالبها آخرون، وكما تعلو الوجوه تعابير الحزن والألم، يبادر آخرون لكيل اللعنات وكلمات الاحتقار لمن ارتكب هذا الجرم .


ستجد هنا في مزار السبعين نظرات مذهولة مسمرة على الصور، وامرأة تخفي وجهها بين راحتيها وهي تجول في معرض صور المجزرة لتنتهي عند لافتة تضم صور الشهداء تظلل المكان، قيل الكثير في المكان وكتب الكثير في سجل المعرض، لكن لم يشعر أحد أنه أو في الحدث حقه .


أطلق على هذا الميدان بصنعاء اسم “السبعين” تيمناً بملحمة دفاعية نهاية ستينات القرن الماضي استبسل فيها ثوار اليمن للدفاع عن عاصمتهم من القوى الملكية التي كانت حينها تحاول إسقاط الحكم الجمهوري الذي قام بعد ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 والعودة للحكم الامامي، فخلال سبعين يوماً، ما بين أواخر نوفمبر/تشرين الثاني ،1967 والأسبوع الثاني من فبراير/شباط ،1968 سقطت أشرس هجمة على الجمهورية الوليدة ولم تسقط صنعاء، فكانت لحظة فارقة في مسار اليمن السياسي .


المصدر: الخليج – عبدالرحمن أحمد عبده

زر الذهاب إلى الأعلى